أخبار وطنية رئيس تحرير "العرب اليوم" يكتب عن تونس: في البدء كانت النار.. لكنه شعب اختار التعددية ونبذ الاقصاء
كتب الاعلامي أسامة الرنتيسي رئيس تحرير "العرب اليوم" مقالا تطرّق خلاله الى التجربة الانتخابية التونسية وفيما يلي نصّه كاملا:
"جاء في إنجيل يوحنا: "في البدء كانت الكلمة". لكن محمد البوعزيزي أكد في تونس أن "في البدء كانت النار".
هي لحظة لم يكن يدرك فيها البائع المتجول الشاب محمد البوعزيزي إلى أين ستصل نتائجها. فقد قرر إشعال النار في جسده احتجاجا على مصادرة عربته التي يبيع عليها الخضر بعد أن ذهب إلى البلدية ليشتكي، فصفعته موظفة البلدية على وجهه. لم يفكر ذلك الانتحاري الجديد أنها ستكون لحظة البداية التي ترسم نهاية نظام استبدادي عجزت عنه حتى "ثورة الخبز" إبان حكم بورقيبة، التي اندلعت بدايات عام 1984، وكانت سببا في مجيء زين العابدين بن علي من وارسو إلى تونس مديرا للأمن العام.
ولم يعلم الرئيس الهارب، بن علي، وهو يزور البوعزيزي في المستشفى قبل وفاته، أن هذا الشاب المسجّى على سرير جراحه، هو سر إنهاء حكمه الذي قارب ربع قرن متواصلة.
ثورات الشعوب تبدأ هكذا، تأتي في توقيتها الخاص، من دون انتظار أو توقع، وعندما تصبح ممكنة تنطلق ولا يوقفها أحد. نعم قد تسهل قراءة ممهّداتها، لكن من الصعب التحكم بانطلاقتها أو نتائجها.
ما حدث ويحدث في تونس يكشف عن أن جذر الخراب كله يقع في السياسة المستبدة والسلطوية والتراكمات التي تنتجها تحت السطح على مدار عقود، فالانتفاضة الشعبية في تونس بدأت بمطالب خدماتية غير سياسية، لكنها في العمق كانت سياسية بامتياز، وبعد أقل من أسبوعين على اندلاعها تحول الشعار من المطالبة بفرص تشغيل العاطلين من العمل إلى المطالبة بتغيير النظام برمّته.
الدول العربية لا تعرف أحداثا كالتي تشهدها تونس، لكنها تعيش أوضاعا سياسيةً واقتصاديةً واجتماعيةً مشابهةً لأوضاع تونس، وبالتالي على الأنظمة ونُخَبها قراءة أحداث تونس جيدا، وعليها أن تعي دروس التجربة التونسية بكل تفاصيلها. فالدرس الأول والمهم من تونس يقول: يجب ألّا يبقى الخيار المطروح على الشعوب محصورا بين أنظمة علمانية فاسدة ومستبدة، أو حركات إسلامية أصولية، برامجها غامضة، والتجارب التي سيطرت فيها على الحكم لا تبشّر إلا بمزيد من الاستبداد والخوف (إيران، الصومال، السودان، غزة).
كانت أيدي الشعوب العربية على قلوبها خوفا من أن يتم تقويض "ثورة الياسمين" في تونس من زمر سياسية فاسدة، أتقنت أكل خيرات الشعوب في الظروف كلها، واللعب على الحبال جميعها. فالذين كانوا يعانون سياسة الاقصاء سابقا من قبل النظام المخلوع، عملوا على إقصاء مَن أقصاهم، ولا يفكرون مِن منطلقات ديمقراطية قويمة.
النجاح الكبير الذي حققه حزب نداء تونس، وهو مزيج قومي ومدني وديمقراطي، وله علاقة بمراكز قوى مناهضة لثورة الياسمين، يؤكد مسألتين في غاية الاهمية: الاولى ان مسألة المشاركة الشعبية الواسعة المعتمدة على التعددية لا الاقصاء لأحد هي المحور الرئيس الذي تتآلف عليه جموع المواطنين، والثانية عمق الاحزاب التونسية وتجذرها هما الحل الذي يصوب المسيرة اذا اعترضتها رياح عاتية.